مقتبس من المجلة الفلكية الصادرة من الجمعية الفلكية الإيطالية
Article published in the Arabic version of the Giornale di Astronomia (Al-Majalla al-Falakia)
by the Società Astronomica Italiana in 1999

                                                                                                                                                         ·     د. نضـال قسوم(*)
                                                                                                                                                        ·     د. جمال ميموني(**)
                                                                                                                                                       ·     د. كريم مزيـان(***)

1- مقدمة:

       لا يمكن دراسة الحالة الراهنة لعلم الفلك في الجزائر وامتداد جذورها في الماضي وآفاقها في المستقبل دون وضع الموضوع في إطاره الثقافي والإجتماعي والتاريخي العام. فالجزائر بلد كبير وذو تاريخ طويل وخاصيات معينة أثرت كلها على تطوره الإجتماعي والثقافي خلال هذا القرن على وجه الخصوص. فمن المعروف أولا أن الجزائر كانت من بين أولى البلدان الجنوبية (أي من العالم العربي والإسلامي أو العالم الثالث عموما) التي تعرضت للاستعمار ولمدة شبه قياسية (132 سنة). ليس هذا فحسب بل إن الاستعباد والتجهيل والمحاولة العنيفة لطمس الهوية العربية الإسلامية للشعب كانت فريدة من نوعها، حتى أن آثارها لا تزال جلية في بلدنا 35 عاما بعد استقلاله. يكفي أن نشير مثلا إلى أن غالبية الشعب كانت تقدر على القراءة والكتابة عندما استعمر سنة 1830، إلا أن نسبة الأمية قدرت بحوالي 90% غداة الاستقلال، ولا تزال النسبة عالية (ما بين 30 و50%) اليوم. ثم إن الاستعمار خلف مشكلة لغوية حادة لا تزال هي الأخرى قائمة بقوة إلى الآن، تتمثل في تعويض اللغة العربية بالفرنسية في شتى المجالات الحيوية للبلاد من الإدارة إلى الصناعة والإعلام وحتى التربية والثقافة حتى أواخر الثمانينات. وأخيرا هناك بعض العوامل العرقية والثقافية المحلية التي تؤثر بشكل غير مباشر على الحياة العامة في البلاد.

       ونعتقد أن الإشارة إلى هذه الخلفية التاريخية والثقافية للجزائر أمر ضروري في دراسة تتناول مجال علم الفلك من جوانبه التاريخية والتربوية والعلمية، خاصة إذا انطلقنا من فكرة رئيسية تتمثل في كون علم الفلك في عالمنا العربي يمثل مجالا ثقافيا أكثر مما يمثل علما يحمله مختصون ويدرس وتطبق نتائجه فيتطور به ومعه المجتمع.

       وحتى تكتمل الصورة العامة بإطارها المحدد يجب الإشارة إلى ثلاثة عوامل أساسية أثرت بقوة على تطور الساحة الثقافية والعلمية في الجزائر خلال العقود الأخيرة.

       أول هذه العوامل وربما أهمها هو سياسة التعريب التربوي شبه الشامل التي أنتهجتها الجزائر منذ أواخر الستينات. ونحن إذ لا نشكك إطلاقا في سلامة الفكرة عموما، إلا أن التقويم الموضوعي للأحداث وما خلفته يستدعي منا التوقف عند نتيجة هامة تمثلت في بروز هوة واضحة بين الجيل الجديد المعرب شبه كلية في ثقافته وعلومه ومصادر معرفته خاصة وبين الجيل الأقدم "المفرنس" في ثقافته وعلومه ومراجعه الفكرية.

       أما العامل الثاني فهو سياسة تكوين العلميين- في دراساتهم العليا على الأقل- في الخارج، وهي سياسة تضحية عظيمة فرضتها الجزائر على نفسها في أيام اليسر والعسر، ورغم أننا نحن الثلاثة مؤلفو هذا المقال كنا كلنا من المستفيدين من منح البعثات إلى جامعات من الدرجة الأولى على المستوى العالمي، واعتبرنا ذلك فرصة العمر بالنسبة لنا، وعدنا إلى الجزائر فزاولنا العمل وحاولنا المساهمة في النهضة، إلا أن هناك ملاحظة هامة يجب توضيحها هي أن الغالبية العظمى ممن كونتهم الجزائر في الخارج، ودفعت في ذلك ثمنا باهظاً، لم يعودوا إلى بلدهم بل استقروا في الغرب ولم ينفعوا الجزائر بذلك شيئا. وهكذا ساهمت الجزائر- أو ربما بعض العوامل الداخلية- في تهجير معظم كفاءاتها العلمية وأقدر الأدمغة من شبابها. و من هذا نستنتج أن نهضة البلاد - مستقبلا - لن تكون سهلة أبدا..

       وآخر العوامل الثلاثة الهامة التي أثرت على التطور العلمي والثقافي للجزائر هو انهيار سعر النفط- وربما بعض الفساد المالي المتزامن معه - في منتصف الثمانينات وما انجر عنه من تقلص حاد في ميزانية الدولة عموما وميزانيات التربية والثقافة والعلوم خاصة. وتمثل ذلك مثلا في توقف عملية استيراد الكتب والمجلات الأجنبية وتقلص ميدان النشر المحلي، سواء باللغة العربية أو الفرنسية، وكذلك مجالي البحث العلمي (بانعدام الدعم المالي له) والإعلام، الذي انحدرت نشاطاته حتى لم يعد التلفزيون مثلا قادرا على عرض برنامج أسبوعي يليق ببلد مثل الجزائر، وانحصر على إعادة المسلسلات السخيفة وبث المباريات الرياضية المحلية ذات المستوى الضعيف...

       كل هذه العوامل أدت إلى جفاف ثقافي وعلمي كبير يتناقض بشكل صارخ ومحزن مع نشاط وطموح الشباب الجزائري المتطلع إلى نهضة واسعة وقوية والمتفائل بأن النهضة تصنعها الإرادة وليس الإمكانيات.

       من يصدق أنه رغم عدم توفر أي مجلة علمية جزائرية على الإطلاق، بل عدم صدور إلا بضعة من الكتب العلمية في كل سنة، إلا أن الواحد منا إذا حاضر في موضوع فلكي في أي مكان فسوف يستمع له مئات الطلبة والشباب من الجمهور العام في خشوع رهيب. ومن يصدق أن معرضا علميا في مركز ثقافي يقع في منطقة "غير آمنة" سوف يجلب المئات أو الآلاف من الزوار...

       حالة علم الفلك في الجزائر هي اليوم مماثلة لحالة معظم الميادين الأخرى (تربوية، رياضية، الخ...): وجود إمكانيات ذاتية وطاقة كامنة عظيمة وانعدام العناية والدعم والتوجيه من طرف أولي الأمور...

       بعد هذه المقدمة العامة نود التطرق إلى موضوع الفلك في الجزائر بشيء من التفصيل، وسوف نقسمه إلى ثلاثة أجزاء: نشاطات النوادي والهواة، ثم تدريس علم الفلك، ثم الأبحاث المتخصصة، وسنختم مقالتنا هذه بجملة من التوصيات. وكلنا أمل أن تشكل هذه المراجعة التحليلية لمجال علم الفلك في الجزائر تقويما مفيدا، سواء للجزائريين أو لإخواننا العرب، عسانا نتعلم من تجاربنا الماضية وأخطائها خاصة فنقيم مشاريع أقوى وأصح لمستقبل أمتنا.

2- نشاطات النوادي وهواة الفلك:

       إن أهم خاصية تتسم بها النوادي العلمية الجزائرية عموما والفلكية خصوصا هي مدة حياتها القصيرة. بل إنه من الممكن والعادي أن نشهد ميلاد جمعية فلكية في ربيع ما - خاصة إذا كان ذلك بمناسبة حدث فلكي معين (مرور مذنب أو مثل ذلك)- واختفائها في الخريف أو الشتاء المواليين. ليس هذا فحسب، بل إن الأطر الإدارية التي تشرف على الجمعيات والنوادي، سواء على المستوى المحلي أو الوطني، هي أيضا متقلبة باستمرار وبشكل مفاجئ، فتضيع الجمعيات في الإجراءات الإدارية والسعي وراء الدعم المالي المصيري، وتتشتت جهود الهواة في غير مجال اهتمامهم.

       ورغم أن عدد نوادي الفلك قد يقارب الخمسين اليوم، إذ لا تخلو مدينة، بل لا تخلو دار ثقافة، أو مركز ثقافي أو جامعة أو معهد من ناد للفلك أو على الأقل ناد علمي يشمل الفلك كجزء من نشاطاته - ويقدر عدد الشباب الممارسين للفلك، من الهواة الجادين إلى الأعضاء العابرين، ببضعة آلاف (حوالي 1000 حسب التقدير "الرسمي"[1]) إلا أن النوادي المستقرة والمستمرة في نشاطها منذ مدة معتبرة (عدة سنوات على الأقل) يعدون على الأصابع، بل يمكن ذكرهم بالإسم: جمعية "البتاني" بمدينة وهران (أسس سنة 1983)، نادي "البيروني" بالجزائر العاصمة (1983)، النادي علم الفلك بجامعة قسنطينة (1986)، نادي "البوزجاني" بمدينة المدية (1989)، جمعية الشعرى لعلم الفلك بمدينة قسنطينة (1996).

       وكما يجب التوقف عند إحدى حالات الإخفاق الواضحة لحركة الجمعيات الفلكية، وهي حالة الجمعية الفلكية الجزائرية، التي أنشئت على المستوى الوطني سنة 1995 بمشاركة أعضاء ومديرين من عدة جمعيات محلية هامة، وكانت تجمع بين الهواة (ذوي الخبرة) والباحثين أو الأساتذة المختصين، ولكنها لم تتمكن حتى من الحصول على الاعتماد من السلطات الرسمية، وبالتالي تلاشت كل الآمال والطموحات التي بعثتها في قلوب المحبين للفلك.

وتتمحور نشاطات الجمعيات والنوادي الفلكية عادة حول ثلاثة نقاط:

أ) جلسات تلقينية لمعلومات فلكية بسيطة للأعضاء، ويتم ذلك عادة في مقر النادي، أي بغرفة في أحد دور الشباب أو المراكز الثقافية.

ب) معارض في مناسبات خاصة تقدم فيها صور أو أشرطة وأحيانا بعض المجسمات من إنجاز الأعضاء.

ج) ليالي رصد الأجرام السماوية.

       لكن الجدير بالذكر أن معظم هذه الأنشطة ليست منتظمة أولا، وأن مستواها متدن جدا في معظم الأحيان، وذلك لقلة المشاركة أو التأطير من طرف المختصين. وقد انخفضت وتيرة النشاط الفلكي في السنوات الأخيرة بشكل واضح للأسباب الأمنية المعروفة.

       كما تجدر الإشارة إلى وجود بعض الملتقيات الوطنية للهواة في بعض المدن (المدية، غرداية، تيزي وزو...) التي تنظمها الجهات المحلية فتدعي لها النوادي الأخرى من أنحاء الوطن وكذلك بعض الأخصائيين لإلقاء بعض المحاضرات. وهناك أيضا ملتقى وطني حول علم الفلك والفيزياء ينظمه نادي علم الفلك بجامعة قسنطينة كل عام ويحضره عدد كبير من المشاركين، وقد أصبح بدوامه معلما مميزا للحياة الثقافية والعلمية للجامعة. كما أن هذا النادي ينظم أسبوعيا دروسا مفتوحة في الفلك يحضرها بانتظام حوالي 50 إلى 60 طالبا.

       وهناك نتيجة هامة استخلصناها بعد احتكاكنا بالنوادي لعدة سنوات تتمثل في أن النوادي الناجحة، ونعني بذلك التي تتمكن من نقل قدر جيد من هذا العلم إلى عدد معقول من الأعضاء، هي تلك التي تحظى بإشراف أو تأطير مباشر من أحد المختصين (أستاذ جامعي أو باحث أو مثل ذلك). ويمكن ذكر، كمثال على هذا، جمعية الشعرى لعلم الفلك، التي تكونت منذ حوالي سنتين ويشرف عليها بعض الأساتذة وبعض الأعضاء ذوي الخبرة والنشاط السابقين، وقد استطاعت رغم حداثة تكوينها أن تملأ الفراغ بنشاط فلكي مكثف، نذكر منه الأمثلة التالية: الإحتفال بيوم الفلك العالمي لسنة 1996، تنظيم تظاهرة خاصة بيوم الفلك العالمي على مدى أسبوع (أبريل 97) احتوت على محاضرات وندوات ومسابقة وعرض صور وأشرطة وبرامج حسابية، وكذلك على وجه الخصوص من سهرة تلفزيونية حول علم الفلك شارك فيها عبر الأقمار الصناعية باحثون مختصون من أمريكا وأوروبا والعالم العربي.

       وربما نعرج قليلا هنا للتحدث عن علم الفلك وطرق عرضه على التلفزيون الجزائري. قبل الثمانينات كانت جل الأشرطة الفلكية التي تعرض هي من إنتاج أجنبي (فرنسي أو أمريكي مدبلج إلى الفرنسية) وتعرض بدون ترجمة إلى العربية. وكانت هذه الأشرطة ذات مستويات جد متفاوتة وتعرض بغير انتظام وفي أوقات مفاجئة، حيث لم يكن أحد يعرف بالضبط ساعة بثها ولا محتواها مسبقا! وخلال الثمانينات وحتى مطلع التسعينات شرع أحد الهواة الناشطين في ميدان الفلك (محفوظ فلوس) في إنتاج حصص فلكية تلفزيونية تدوم عادة حوالي نصف ساعة، حيث يختار موضوع معين فيعرض حوله شريط قصير ويتبعه نقاش بين ضيف الحصة (أحد المختصين في الفلك) ومجموعة من الشباب الهواة. وكان مستوى هذه الحصص متوسطا جدا. وتم بعد ذلك تنظيم بعض الحصص الخاصة المطولة، بالإشتراك مع بعض الجمعيات النشيطة (البتاني، ديسمبر 95، والشعرى، أبريل 97). وتبقى الملاحظة العامة حول علم الفلك في التلفزيون الجزائري هي عدم الإنتظام أولا، ثم قلة المتحدثين الجيدين ذوي المعرفة الفلكية والبلاغة التعبيرية. ولذا لا يزال التلفزيون يتعامل مع هذا المجال باعتباره قليل الفائدة (أي مدى استمتاع الجمهور العام) ويحتاج إلى جهد تحضيري كبير ليس القائمون على البرامج التلفزيونية مستعدين لبذله.

       ثم هناك المشروع الهام الآخر الذي يخص الفلك ويستهدف الهواة والجمهور العام، والذي يتمثل في "القبة الفلكية" أو "قبة النجوم". طبعا يعرف الجميع أن القبة هذه عبارة عن قاعة كبيرة تشبه المدرج وتعلوها قبة نصف كروية، ويوجد في وسط القاعة جهاز عرض متطور خاص يرسل أضواء تمثل الأجرام السماوية على صفائح خاصة تغطي السطح الداخلي للقبة، وتتم بذلك محاكاة (أو تمثيل) السماء الليلية بواقعية مدهشة. ويستطيع الجهاز، الذي يكون موصلا بحاسوب مبرمج خاص، تسريع حركات الأجرام، فيتمكن المشاهدون من متابعة حركة القمر وأطواره (أهلته) خلال الليلة أو الشهر، وكذلك حركة النجوم الظاهرية، وحركات الكواكب، ويتعرف المشاهدون أيضا على المجموعات النجمية (الأبراج) المشهورة وغير المشهورة. فبالإضافة إلى البعد التثقيفي والترفيهي للقبة السماوية، فهي تلعب دورا تربويا وتعليميا فريدا من نوعه بالنسبة للطلبة من جميع الأعمار. ولا نجد قبة فلكية في مدينة ما إلا وكانت معلما ثقافيا وحضاريا مميزا يقصده الزوار بغية التطلع والمعرفة، ولا تخلو مدينة في الغرب من مثل هذه القبة.

       لهذه الأسباب كلها اقترح خلال الثمانينات مشروعان لإنشاء قبة فلكية، الأول من طرف الجامعة الإسلامية لمدينة قسنطينة والثانية من طرف المسئولين بمدينة سيدي بلعباس. ورغم أن المشروع الأول كان طموحا جدا وأشرف على وضعه وتفصيله أساتذة جامعيون حتى تم التعاقد مع شركة "سبتز"  (Spitz)الأمريكية وتم الحصول على الميزانية الضرورية وكل الموافقات الرسمية، إلا أن المشروع لم ير النور بسبب إضرابات في الجامعة الإسلامية راح ضحيتها عميد الجامعة وباقي الطقم الإداري .. أما المشروع الثاني فقد تم تنفيذه فعلا وقدمت القبة الفلكية لمدينة سيدي بلعباس[2] عروضها لمدة سنوات إلى أن توقفت منذ حوالي سنتين بسبب نقص في الصيانة وقطع الغيار والخبرة الفنية[3].

       وبهذا تكون الأسرة الفلكية الجزائرية، من العارفين بالفلك إلى الهواة وحتى باقي الجمهور العام، قد فقدت إحدى أهم الأدوات لنشر الثقافة الفلكية والعلمية على أوسع نطاق وبأحدث الطرق...

       لا تزال الحركة الهواتية الفلكية الجزائرية إذن تعاني من ضعف ونقائص أساسية في نشاطاتها، وسنحاول فيما يلي ذكر بعض الأسباب التي أدت في نظرنا إلى هذه الحالة المتردية:

·     قلة الدعم الأساسي والمستمر من طرف المؤسسات الرسمية المعنية (وزارة التربية- وزارة الثقافة- وزارة الشبيبة والرياضة- السلطات المحلية...).

·     نقص كبير في الربط بين النوادي الفلكية والمؤسسات العلمية العليا (مركز الدراسات الفلكية، الجامعات...) والذي يعود أولا إلى ضعف النشاط العلمي والإعلامي لهذه المؤسسات العلمية من جهة، ثم إلى الهوة الثقافية واللغوية (كما أشرنا في المقدمة) بين الشباب الهاوي والعلميين المختصين، إذ نجد هؤلاء غير قادرين في معظم الحالات على تقديم علمهم بشكل مفهوم ومشوق للجمهور، سواء عن طريق المحاضرات أو المشاركات في الإعلام (التلفزيون، الخ..).

·     غياب مشروع وطني في علم الفلك (مثلا إنجاز قمر صناعي، تدريب رائد فضاء لإرساله في إحدى الرحلات، الخ..) يكون بمثابة المغناطيس الجذاب الذي يستقطب اهتمام الخاص والعام.

·     قلة الإحتكاك بين النوادي والجمعيات الجزائرية ومثيلاتها في العالم العربي وأوروبا. فمن بين عشرات النوادي الفلكية لا نجد إلا اثنين أو ثلاثة لهم أدنى اتصال (تبادل المراسلات، الإعلام المتبادل حول النشاطات، تبادل الزيارات، إقامة ملتقيات مشتركة للإستفادة من خبرات بعضها البعض، الخ..) حتى مع النوادي التونسية والمغربية. وكذلك انقطع مجمل الاتصال والتعاون مع الجمعيات الفرنسية في السنوات الأخيرة..

·     غياب شخصيات فلكية محلية كبيرة تكون عالية المستوى علميا ومتحدثا بليغا باسم علم الفلك كما هو الحال في كثير من بلاد العالم ("كارل سيغن" في أمريكا، "هوبر ريفز" في فرنسا، "باترك مور" في بريطانيا، فاروق الباز في العالم العربي، العجيري في الكويت، الخ..) مما جعل علم الفلك في الجزائر يبقى فرعاً يتيماً يسعى من كفيل إلى آخر..

3- تدريس علم الفلك:

       يمكن القول ببساطة شديدة أنه لا يوجد حاليا ولم يوجد هناك في الجزائر منذ الإستقلال أي تدريس فعلي لعلم الفلك، إلا حالات نادرة وشاذة سوف نفصلها لاحقا.

       فالمنظومة الدراسية العامة بطوريها الإبتدائي والثانوني تكاد تخلو تماما من أي تعليم فلكي، ما عدا فصل بسيط عن المجموعة الشمسية يدرس في مادة الجغرافيا كمدخل لدراسة الأرض خلال الطور المتوسط. ما عدا ذلك، فالتلميذ الجزائري ينهي دراسته العامة كاملة وربما يصبح طبيبا أو مهندسا أو كاتبا صحفيا أو حتى وزير تربية وهو لا يعرف الفرق بين النجم والمجرة ولا بين الكواكب والأقمار ولا الفرق بين المنظار والأسطرلاب ولا عمر الأرض أو عمر الكون! وكلما أشرنا إلى المسئولين والمثقفين والمجتمع عامة بهذا النقص الفادح أجبنا بأن "علم الفلك" يعتبر عموما "ترفا" لدى المجتمعات المتقدمة، أما نحن فلا يقدم لنا فائدة مباشرة (أي في التنمية)، ولذا فلا يشكل أولوية في ذهن المشرفين على أمور البلاد حاضرا أو مستقبلا. والله يعلم أننا نُسأل عشرات المرات في مناسبتين من كل عام لماذا لا تحتفل الأمة جمعاء بأعيادها ومناسكها بشكل موحد، ولا يخطر ببال الجماعة أن المسألتين مرتبطين بشكل مباشر. ونذكر هنا - للطرافة وتأكيدا لهذه الصلة - أن في إحدى المسابقات الفلكية التي نظمت في إحدى الجامعات أجابت إحدى الطالبات عن السؤال المتعلق بسبب اختلاف تواريخ الصوم والأعياد بين البلدان بأنه - في اعتقادها - ربما كان قمر "المشارقة" يختلف عن قمر "المغاربة" !

       أما على المستوى الجامعي فإننا نجد محاولات متقطعة هنا وهناك لإدخال مقرر علم الفلك. فقد كان هناك تدريس خفيف لبعض المواضيع الفلكية في جامعة الجزائر غداة الإستقلال، لكنه انقطع في أواخر الستينات، رغم كونه مدمجا في مادة الرياضيات. ثم في أواخر الثمانينات ظهرت محاولة جادة لإدخال علم الفلك، إلى جانب الفيزياء والبيولوجيا، إلى المنظومة العامة للجامعة الإسلامية. ورغم المعارضة القوية التي شهدتها الفكرة من طرف الطلبة خاصة، إذ رأوا في ذلك غزوا فكريا غربيا (!) على مناهجهم، إلا أن الفكرة طبقت لبضع سنوات قبل أن تنسف[4]. بل إن المشرفين على الجامعة الإسلامية أرادوا الذهاب إلى أبعد من ذلك وخططوا لإنشاء معهد للعلوم الفلكية داخل الجامعة ضمن مشروع كبير يشمل القبة الفلكية التي أشرنا إليها سابقا. وكانت المعارضة على هذا المشروع عظيمة جدا، إذ اتحد فيها أبناء الجامعة (الطلبة خاصة) وأطراف خارجية تمثلت خاصة في الجامعات (العلمية) الكبرى. ولم يكد المشروع يكتمل، رغم حصوله على الموافقة الوزارية والميزانية، حتى حدث الإضراب الكبير الذي انتهى إلى إلغاء المشروع وشطب المواد العلمية (الغربية) من المناهج، وإقالة جميع المسئولين- بمن فيهم العميد- الذين كانوا يدعمون المشروع.

       وفي بداية التسعينات أنشئ معهد جديد للفيزياء بجامعة البليدة[5] أشرف عليه مجموعة من الأساتذة كانوا قد أنهوا دراساتهم العليا في الغرب منذ فترة وجيزة. وتوفرت في هذا المعهد عدة شروط هامة ساعدت على إحداث شعبة للدراسات العليا في فيزياء الفلك، منها خاصة: وجود ثلاث دكاترة مختصين في فيزياء الفلك في المعهد كلهم خريجو الولايات المتحدة الأمريكية، وجود المعهد على مسافة معقولة من مرصد الجزائر الذي كان يحوي مجموعة من الباحثين المختصين في الفلك، وأخيرا تفهم ودعم عمادة الجامعة. وبالفعل انطلقت في سبتمبر 91 الدراسات العليا في علوم الفلك واستمرت ثلاثة سنوات تم خلالها إخراج مجموعة من حاملي الماجستير في الفلك[6]. ولكن التجربة توقفت تحت وطأة المناخ العام السائد آنذاك والأحداث الأليمة التي شهدتها الجزائر، ومع نهاية 94 لم يبق هناك أي من الدكاترة الفلكيين (منهم من مات ومنهم من هاجر) بمن فيهم الباحثون المنتمون للمرصد الذين ساهموا في المشروع فشاركوا بالتدريس والتأطير. ورغم أن التجربة كانت فريدة من نوعها واتسمت بالجدية العالية والمستوى العلمي المرتفع[7] إلا أن أكبر نقص اتسمت به هو عدم قدرتها على التنسيق القوي مع المرصد من جهة، وعدم التمكن من إنشاء فرق بحث متقدمة وذلك للإختلاف الكبير بين التخصصات الدقيقة للأساتذة داخل علوم الفلك. وتمثل هذه النقطة الأخيرة أكبر مشكلة يعاني منها علم الفلك على المستوى الأعلى في الجزائر وسوف نعود إليها في جزء لاحق من هذا المقال عندما نناقش وضع الأبحاث المتخصصة.

       واليوم لم يبق من تدريس للفلك في الجزائر سوى مقرر يتيم ضمن منهج الرياضيات في المدارس العليا التي تخرج أساتذة للثانويات بشهادة الليسانس (بكالوريوس) بعد دراسة تدوم أربع سنوات.

       ولا تزال الجهود مبذولة لإدخال مادة علم الفلك إلى مناهج التربية، سواء في التعليم العام أو الجامعي. ونذكر من بين هذه الجهود الضغط المتواصل الذي يقوم به د. جمال ميموني على مسؤولي التربية وإدارة الجامعة بمدينة قسنطينة. ومن ذلك مثلا إشرافه على أيام تربوية في علم الفلك تتمثل في دورات تدريبية لأساتذة الثانوي لتأهيلهم لتدريس مادة الفلك مستقبلا، ومن جهة أخرى فقد تقدم الأخ الدكتور بمشروع لإضافة مقرر (مدخل إلى فيزياء الفلك) إلى مناهج البكالوريوس في الفيزياء[8].

4-  الأبحاث المتخصصة:

       لقد أشرنا فيما سبق إلى وجود عدد معتبر من الجزائريين المختصين في الفلك، بعضهم موظف كباحث بمرصد الجزائر والبعض الباقي متوزع على الجامعات (في معاهد الفيزياء غالبا). وبالتالي يحق للمراقب أن يتوقع إنتاجا معقولا من الأبحاث المتخصصة. لكننا سوف نبين فيما يلي أن الواقع لا يرقى أبدا إلى مستوى التطلعات.

أ- المرصد:

       لا يوجد في كامل القطر الجزائري سوى مرصد واحد يدعى "مرصد بوزريعة" أو "مرصد الجزائر (العاصمة)"، إذ يقع على جبل يشرف على المدينة، على ارتفاع 350 متر، حيث كانت ظروف الرصد ممتازة آنذاك - على خلاف الحال الآن.

       بني هذا المرصد من طرف الإدارة الفرنسية المستعمرة منذ أكثر من قرن، بالضبط سنة 1882. وفي مطلع القرن لعب المرصد دورا علمياً دوليا هاما، إذ كان من المشاركين الأساسيين في مشروع "خريطة السماء"، الذي شمل 18 مرصدا.

       وتم تجهيز المرصد بعدد من الآلات، منها خاصة: منظار مصور قطره 36سم، أسطرلاب "دانجون" لقياس المواقع، ومنظار زوالي. ولعب المنظار المصور الدور الأساسي فقام بتصوير للسماء على مدى نصف قرن. وبالفعل لا تزال مكتبة المرصد تحفظ الآلاف من اللوحات الصورية للسماء لم يتم بعد استغلالها علميا كما ينبغي، وهي تحمل معلومات فلكية قيمة عن مواقع الأجرام (نجوم، مجموعات، كواكب، أقمار، مذنبات، كويكبات) يصل قدرها الفلكي (magnitude) إلى 12 عادة، و14 في بعض اللوحات. ونشير إلى أن هذه اللوحات المدونة متاحة للدراسة من قبل كافة الفلكيين (الجزائريين وغيرهم).

       لكن المرصد أفل نجمه خلال العقود التالية، وتوقف الرصد تدريجيا حتى تحول المرصد إلى شبه متحف. ولم يغلق المرصد بشكل كامل في أي فترة، خاصة أن عدة وزارات (الثقافة والإعلام، والشئون الدينية، والداخلية) ظلت تحتاج إلى "صناع التقاويم".

       ثم حدث تغيير إداري هام أثر سلبا على حياة المرصد، إذ تحول من كفالة التعليم العالي والبحث العلمي إلى وزارة الداخلية في مطلع الثمانينات بعدما قررت هذه الأخيرة إنشاء مركز أبحاث وقياسات للزلازل والهزات الأرضية[9]، فأنشأت مركز الأبحاث في علم الفلك وفيزياء الفلك والجيوفيزياء ووضعته في مباني مرصد بوزريعة. ولأن دراسة الزلازل ومحاولة التنبؤ بها علم "مفيد" وعلم الفلك "غير مفيد" حظيت الجيوفيزياء بحصة الأسد من الاهتمام والتطوير وبقي علم الفلك يتيما بل عالة على المسئولين في عقر داره (المرصد)!..

       ومع مطلع التسعينات كان المرصد يضم ما بين  6 و 8 فلكيين مختصين معظمهم حاملين لشهادة الدكتوراه من فرنسا. رغم ذلك لم يتحول المرصد إلى مركز إشعاع لعلم الفلك ولم ينتج أبحاثا (لا من حيث العدد ولا من حيث النوع) وظل نشاطه خافتا ومذبذبا.

      ويعود هذا الحال في تقييمنا إلى عدد من العوامل، نلخصها كما يلي:

·     انعدام الإمكانيات الأساسية من أجهزة الرصد والقياس والتحليل التي كانت جلها عاطلة ولا تزال، وكذلك أجهزة الحاسوب وشبكاتها، وأخيرا إلى الضعف الرهيب للمكتبة وقلة مراجعها (كتب ودوريات).

·     الاختلافات الكبرى في اختصاصات واهتمامات الباحثين، التي كانت تتراوح بين دراسة النشاط الشمسي ودراسة مجموعات المجرات، مرورا بالبلازما البيكوكبية وإعداد التقاويم. وأدى هذا إلى عدم تشكل مجموعات بحث تتطرق إلى مواضيع البحث بشكل فعال وتنتج أبحاثا قيمة وبشكل غزير.

·     قلة الاحتكاك بين الباحثين والأسرة الجامعية، إذ لم نشهد إلا قلة قليلة منهم تدرس أي مقرر في معاهد الفيزياء أو تشرف على الطلبة في مشاريع الدراسات العليا.

·     قلة النشاط العام، من محاضرات عامة وندوات، ما عدا أسبوع الإحتفال بالعيد "المئوي" للمرصد سنة 1992.

ب- الجامعات:

       تواجد العديد من الأساتذة في معاهد الفيزياء بالجامعات الجزائرية ممن كانت تخصصاتهم فلكية فعلا أو خبراتهم في المجال تؤهلهم للقيام بدور ما في النهوض بهذا العلم على المستوى الأكاديمي. ولكن خبراتهم كانت جد متفاوتة إذ بعضهم حصل على الدكتوراه في فيزياء الفلك وتابع تكوينا واسعا ومفصل في معظم فروع هذا المجال، بينما البعض الآخر كانت تتراوح اختصاصاتهم من فيزياء البلازما إلى الفيزياء الذرية والنووية والجسيمية مع أخذ بعض المقررات الفلكية في مرحلة ما من تكوينهم. إضافة إلى هذا نجد هؤلاء الأساتذة مبعثرين عبر الجامعات والمعاهد العديدة[10] وعبر مدن التراب الجزائري الشاسع. وطبعا من نفل القول أن نشير إلى انعدام الاتصال بينهم، خاصة مع قلة خطوط التلفون الرابطة بين المعاهد وغياب المجلات العلمية التي تعرف الباحثين بأعمال واهتمامات بعضهم البعض، ولا نريد ذكر غياب شبكة الإنترنت شبه الكامل عن الجامعات الجزائرية[11].

       أما الأبحاث الجامعية في علم وفيزياء الفلك فتكاد تنعدم تماما، إلا بعض الدراسات النظرية التي تتصل بالفلك إلى حد ما مثل بعض الأعمال التي تتم بمعهد الفيزياء لجامعة قسنطينة كمواضيع النسبية العامة والأوتار الفائقة والنوترينوات.

       وأخيرا لابد من الإشارة - من أجل الشمولية في عرضنا - إلى مركز أبحاث تتصل أعماله كثيرا بعلم الفلك رغم انغلاقه شبه الكامل على نفسه، حتى أننا لا نعرف عنه إلا القليل. هذا المركز هو "المركز الوطني للتقنيات الفضائية" الموجود بمدينة أرزيو، قرب وهران، والذي تشمل مجالاته كلا من الجيوديسيا (المساحة) الفضائية والإستشعار والإستكشاف وغيرها... ولكن يبقى هذا المركز للأسف مفصولا تماما عن الأسرة الأكاديمية.

5- توصيات:

       ربما يبدو عرضنا لحالة علم الفلك في الجزائر خلال العشريات الأخيرة قاسيا في كثير من النواحي، رغم المحاولات العديدة على المستويين الهواتي والتخصصي. وربما أشار أحد إلى أن النشاط الفلكي العام في الجزائر رغم ما يعانيه من نقائص وما يواجه من مناخ صعب، هو في آخر المطاف أفضل مما نجد علم الفلك عليه في كثير من الأقطار العربية. لكن هذا العزاء لا يخفف من خيبة أملنا لأن الإرادة والطموح لدى الشباب الجزائري (كما نعرفه جيدا) كان يمكن بقليل من العناية والإمكانيات والتوجيه، أن ينتج نشاطا عظيما ومستوى عال من المعرفة. ثم إننا ونحن نقدم هذا التقويم، نرغب في الكشف عن الأخطاء بغرض معالجتها في الجزائر، وأيضا حتى يستفيد إخواننا العرب من تلك التجربة- بحسناتها وسيئاتها- لأننا نتطلع إلى منافسة الشعوب الأخرى أو على الأقل الإقتداء بالأمم المتقدمة في مثل هذه المجالات العلمية.

       ومن هذا المنطلق نود تقديم جملة من التوصيات تتدرج من الأبسط إلى الأكثر طموحا وتخص جل المسائل التي طرحناها أعلاه من نشاطات الهواة في النوادي إلى المجال التعليمي وانتهاء بالأرصاد والأبحاث التخصصية.

أ- النوادي والهواة:

       لا شك أن الهواة يعانون قبل كل شئ من ضعف الإشراف والتأطير. ولذا يتوجب على من يهمه أمر الفلك العمل على ربط النوادي بالمختصين، خاصة إذا وجد هناك مرصد. فإن لم يكن هناك مرصد فربما يستغل الهواة امتلاكهم لمنظار متوسط القطر (10 أو 12 بوصة مثلا) لدعوة الفلكيين من حين لآخر لليالي رصد يستفيد منها الجميع.

       وكذلك يتسم الهواة عندنا بنقص في المعلومات من جهة وقلة الخبرة في الرصد وتشغيل الأجهزة من جهة أخرى. ولذلك نوصي بالإكثار من الملتقيات الوطنية والإقليمية (مع الأشقاء في تونس والمغرب خاصة لسهولة الإتصال والتنقل) لأن هذه التظاهرات تؤدي دوما إلى إبراز أحسن القدرات.

       وأخيرا نود الإشارة إلى ظاهرتين ثقافيتين عالميتين برزتا بقوة في السنوات الأخيرة يجب أن لا يغفل عنهما شبابنا إذا أرادوا مواكبة العصر في شتى المجالات. تتمثل الظاهرة الأولى في ثورة المعلومات، التي تتلخص في أمرين: أولا تحول الحاسوب من جهاز للعلميين إلى أداة يستخدمها الجميع، خاصة مع إضافة محرك الأقراص المدمجة CD-ROM Drive وما يتيحه من إمكانيات متعددة الأوساط Multimedia، وثانيا في انفجار شبكة الإنترنت، التي صارت تقدم أحدث المعلومات والتجارب من شتى أنحاء العالم في رمشة عين. وإذ لا يسعنا المجال هنا لتفصيل هذه الفكرة الهامة، نكتفي بالتوصية لكل مهتم بالفلك أو محب للعلم باكتساب أكبر قدر ممكن من المعرفة والخبرة بإمكانيات الحاسوب الجديدة.

       أما الظاهرة الثانية فتتمثل في تسارع انتشار اللغة الانجليزية عبر العالم، حتى لم يعد أي علمي، بل أي مثقف، يستطيع التعامل مع مستجدات العالم في أي مجال دون معرفة هذه اللغة. فهنا أيضا لا مفر لشبابنا من إتقان اللغة الانجليزية (الى جانب اللغة العربية طبعا).

ب- التعليم:

       لا نبالغ أبدا إذا قلنا إن أهم توصية يمكن أن نتقدم بها تتوجه إلى وزارة التربية من أجل إدخال مادة علم الفلك في إحدى سنوات التعليم العام (الإبتدائي أو المتوسط أو الثانوي) ضمن المنظومة التربوية. فلا يجوز أبدا ولا يعقل أن يتخرج الطالب بشهادة الثانوية العامة أو شهادة جامعية وهو لا يقدر على التعرف على الشمال أو الشرق في ليلة ما أو لا يستطيع تفسير أطوار (أهلة) القمر خلال الشهر!

       ولا يجب أن يقتصر تدريس علم الفلك على الطور الأساسي، بل لابد من إحداث مقررات وربما تخصصات كاملة تعني بهذا المجال. فالجزائر والبلدان العربية لا يمكنها، ولن تسمح لها ظروفها الإقتصادية لو أرادت، مواصلة تكوين الأخصائيين في الفلك في الخارج ومن نفل القول أنها لن تستطيع الاستغناء عنهم كما جرى في الحالات والمراحل الماضية.

       وما دام علم الفلك مرتبطا بشكل وطيد بالفيزياء (الإشعاع، الميكانيك، البلازما والكهرومغناطيسي، الفيزياء النووية والذرية...) فإن أسهل مبادرة تتمثل في إدراج بعض المقررات الفلكية في سلك الدراسات الفيزيائية بالجامعة.

       كما لا يفوتنا أن نشير إلى ضرورة أن يشمل منهاج الدراسة في الفلك الجانبين النظري والرصدي، إذ لابد أن يتعرف الطالب على المجالين لأنهما يكملان بعضهما البعض، بحيث يستطيع القيام بالمشاهدات الدقيقة إذا توفر لديه منظار أو انتقل إلى مرصد ثم يقوم بتفسير نتائجه وبناء نماذج نظرية بالمعادلات والبرامج الحسابية تسمح بتمثيل ما يشاهد والتنبؤ بظواهر ونتائج أخرى.

ج- الرصد والأبحاث المتقدمة:

       إن للمرصد الفلكي أهمية خاصة في قلب كل فلكي، حتى وإن كان تخصصه نظريا محضا. فالمرصد مرتبط بمعظم الاكتشافات الفلكية عبر العصور، وهو السبب الرئيسي وراء التحولات الكبرى في نظرة الإنسان إلى الكون. ولكن المراصد في العالم العربي تعد على أصابع اليد، وكثير منها- بما في ذلك مرصد الجزائر- في حالة فظيعة من التدهور، وهذا رغم توصيات المؤتمرات الدولية الإسلامية العديدة حول رؤية الهلال والتقويم الإسلامي..

       ولأن الجزائر (مثل بعض المناطق في العالم العربي) تتمتع بتضاريس جغرافية جد ملائمة، إذ نجد جبل "الشريعة" ذا ارتفاع يقدر بـ  1500متر على بعد  50كيلومتر فقط من العاصمة، و 20كم فقط من جامعة البليدة (التي أحدثت فيها شعبة دراسات عليا في فيزياء الفلك من 1991 إلى 1994 كما أشرنا آنفا) ! ولذلك نرى من الضروري استغلال هذه الإمكانيات، ربما في شكل برنامج تعاون مع بعض البلدان العربية أو الأوربية[12].

       ويعلم كل المتتبعين للتطورات العلمية في العالم أن إنجازات من هذا النوع كثيرا ما تفجر نهضة علمية كبيرة في هذا المجال أو ذاك، لأنها تستقطب كفاءات علمية هامة وتخلق برامج تعاون بين عدة مؤسسات، إلى غير ذلك من العوامل الأساسية للبحث العلمي. وربما جاز لنا أن نذكر هنا أن علم الفلك في أمريكا تقدم على البحث الأوروبي بفضل مرصد جبل ولسن وجبل "بالومار" اللذان بنيا مع مطلع هذا القرن. ثم كلنا يعلم ويشهد استمرار التفوق الأمريكي شبه الكامل مع نجاح التلسكوب الفضائي "هابل".

       وكيف نفسر إسراع إسرائيل سنوات فقط بعد إنشائها كدولة، إلى بناء مرصد وتوفير الدعم له وإبرام عقود التعاون بينه وبين المؤسسات الغربية، واستمرار تفوقها العلمي والتقني المطلق في المنطقة كلها، بينما لا تقارن إمكانياتها المالية والبشرية مع إمكانيات العرب؟..

       ثم لقد صارت هناك فرص كثيرة للقيام بأبحاث متقدمة حتى إذا لم يتوفر أي مرصد يقدم معطيات رصدية جديدة. إذ سمحت الحواسب والشبكات وأنظمة تخزين المعلومات بتقديم كميات عظيمة من المعطيات التي تحصل عليها المراصد والأقمار الصناعية العلمية إلى كافة الباحثين عبر العالم. ويستطيع هؤلاء إذن القيام بعمليات التحليل والنمذجة كما لو أنهم حصلوا على تلك المعطيات بأنفسهم.

       وكأمثلة عن هذه الإمكانيات الجديدة، يمكن ذكر القياسات التي قام بها القمر الصناعي "هيباركوس" لمواقع النجوم، وهي أدق قياسات تمت في تاريخ الإنسانية، هذه النتائج متوفرة الآن مجانا للعالم بأسره. كما تقدم الوكالة الفضائية الأمريكية كميات كبيرة من المعطيات للعالم في أشكال مختلفة: ملفات حرفية ASCII، ملفات "بوستسكربت" (Postscript) ، صور، وغير ذلك... حتى النتائج غير المفتوحة لجمهور الفلكيين يمكن الحصول على معظمها بمجرد التقدم بالطلب لدى الباحثين الدارسين لها أو الملتقطين لها.

       ولذلك نرى أن مجال تحليل المعطيات الفلكية يشكل طريقا مفتوحا يمكن للباحثين في بلادنا سلوكه والوصول به إلى حالة ديناميكية وحية لعلم الفلك عندنا بشكل واسع، لأنه يحرك الأعمال والنشاطات المتقدمة ويفتح آفاقا جديدة للطلبة حول المعطيات والأبحاث الجديدة عبر العالم، بل ربما يقدم فرصا جادة للهواة للمساهمة في بعض الجوانب السهلة أو الروتينية من الأبحاث. هذا بدون الحاجة إلى إمكانيات مادية وميزانيات مالية كبيرة.

       رغم هذا كله نلح بقوة وصراحة على ضرورة تطوير المشاريع الرصدية في الجزائر والعالم العربي، إذ لا يمكن تصور أي نهضة لعلم الفلك في أي زمان أو مكان في غياب الأسس الرصدية لهذا النشاط. ولكن المشكلة أن معظم الجمهور يعتقد أن هذا لا يتم إلا بصرف أموال باهظة لا يمكننا توفيرها في حالة الأزمة الاقتصادية والتنموية الراهنة. والحقيقة أن ثمة جملة من مواضيع البحث الفلكي يمكن التطرق إليها بأجهزة متوسطة الحجم والتكلفة (مثلا بمنظار لا يزيد قطره عن متر واحد)، ومن هذه المواضيع دراسة النجوم المتغيرة والبحث عن النجوم المتفجرة وغير ذلك.

       بل يمكن، وربما يجب العمل على إنشاء شبكة من المراصد المتوسطة على مستوى العالم العربي (خاصة البلدان التي تتوفر فيها الإمكانيات المالية والظروف الطبيعية الملائمة) بحيث تتكامل في الأرصاد والدراسات ومتابعة الأحداث الفلكية مثل البحث عن المذنبات وتصويرها ودراستها.

       وأخيرا نؤكد على ضرورة إرساء تقاليد عمل صحيحة، وعلاقات تعاون مهنية جدية بين المجموعات العربية (فيما بينها) وبين فرق البحث والمؤسسات المتقدمة ذات الخبرة الطويلة، إذ يجب التذكر دوما أن هذه الفرق رغم خبرتها وإمكانياتها الكبيرة تبقى دوما تبحث عن مراصد تتيح لها فرص المشاهدة وعلميين يشاركونها في الدراسة للوصول إلى أكثر كمية من النتائج وفي أقصر وقت.

       خلاصة القول إذن أن إمكانات التطوير لعلم الفلك في شتى المجالات (النوادي، التعليم، الأبحاث) في العالم العربي عموما كثيرة جدا، وهي كلها لا تحتاج في معظم الأحيان سوى لإرادة قوية وجهود صحيحة ومركزة (غير مبعثرة) من أجل إرساء قواعد صحيحة وصلبة للتنمية العلمية.



(*) أستاذ مساعد بكلية الدراسات التكنولوجية (الكويت) وباحث زائر بمركز "غودارد" التابع للوكالة الفضائية الأمريكية NASA دكتوراه في فيزياء الفلك من جامعة كاليفورنيا سنة 1988، مختص في الأشعة غاما، يكتب ويحاضر كثيرا في الفلك.

(**) أستاذ مساعد بجامعة قسنطينة، حاصل على شهادة الدكتوراه في فيزياء الجسيمات من جامعة بنسيلفانيا سنة 1985، وله أبحاث واهتمامات عميقة في علم الفلك، خاصة فيما يتعلق بالنوترينوات.

(***) باحث بمرصد الجزائر، حاليا زائر بجامعة واشنطن- سياتل، حصل على الدكتوراه في فيزياء الفلك من جامعة "تولوز" (فرنسا) سنة 1987، متخصص في البلازما الفضائية، له مساهمات ثقافية (مقالات) وتربوية (محاضرات، دورات .. ) فلكية كثيرة.

[1]  محفوظ فلوس، كيفية تنشيط ناد لعلم الفلك (سلسلة الدليل العلمي للشباب)، منشورات الجمعية الجزائرية للأنشطة العلمية والتقنية للشباب، الجزائر 1993، ص9.

[2]  القبة متوسطة الحجم (قطر 8م) وتحوي جهاز عرض من نوع ZKP II Zeiss Jena.

[3]  تم أخيرا إنشاء قبة النجوم ذو حجم معتبر في "مدينة العلوم" بالجزائر العاصمة.

[4]  ولاقت التجربة نجاحا هاما وشهدت استحسان المسئولين حتى انتشرت إلى معاهد إسلامية أخرى (الجزائر العاصمة وأدرار) حيث تم تدريس مادة علم الفلك لبضع سنوات .

[5] تقع البليدة على بعد حوالي 50كم جنوب غرب الجزائر العاصمة.

[6] شمل المنهج التدريسي لفيزياء الفلك آنذاك كلا من المواد التالية: 1- مدخل إلى فيزياء الفلك، 2- فيزياء النجوم 3-بلازما الفضاء، 4- الميكانيكا السماوية، 5- فيزياء الفلك النووية والكون البدائي، بالإضافة إلى مقررات أخرى متقدمة في الفيزياء والرياضيات.

[7] نذكر على سبيل المثال أن المعهد نظم في يونيو 93 ملتقى وطنيا لفيزياء الفلك دام ثلاثة أيام شارك فيه باحثون وأساتذة من عدة جامعات جزائرية.

[8] ويشمل محتوى هذا المقرر المواضيع التالية: علم الفلك الأساسي (المواقع والحركات) وفيزياء الفلك الأساسية (الأطياف والتفاعلات وحالات المادة) وفيزياء النجوم، وفيزياء المجرة، ومبادئ الكوسمولوجيا.

[9]  ) يجب التذكير هنا بالزلزال العنيف الذي ضرب مدينة "الأصنام" الجزائرية سنة 1981 وحطمها شبه كلية

[10] يفوق عدد الجامعات والمعاهد العليا في الجزائر الثلاثين حاليا، ويزيد عدد الأساتذة عن عشرة آلاف...

[11] هناك في الجزائر اليوم مركز واحد مرتبط فعليا بشبكة الانترنت هو مركز الأبحاث في المعلومات العلمية والتقنية بالعاصمة، أما في الجامعات فلا يوجد الربط إلا لدى العميد أو أحد المسئولين الكبار.. إذا وجد أصلا.

[12]  نشير هنا إلى أن الجامعة الإسلامية بقسنطينة كانت في أواخر الثمانينات، وضمن المشروع الكبير الذي أشرنا إليه آنفا، أوشكت على إكمال اتفاق مع مرصد نيس (فرنسا) لاستعارة منظار قطره  60سم - ولمدة 99 سنة! - يوضع بمرصد جديد يبنى على أعلى قمة من منطقة قسنطينة (كهف الأحمر بجبل الوحش)..